فضاء للتكوين 1

 

بيداغوجيا الإدماج مدخل لأجرأة الكفايات - د.محمد شرقي                         

يستدعي الحديث عن بيداغوجيا الكفايات الإجابة عن مجموعة من التساؤلات نعتقد أنها، من جهة ،ستساعدنا على إيجاد موقع لها ضمن ما يسمى بالمقاربة بالكفايات، ومن جهة أخرى الوقوف على الجديد الذي يمكن أن تضيفه على مستوى التفكير في الممارسة البيداغوجية وتطويرها . من بين هذه التساؤلات ذاك المرتبط بعلاقة الإدماج كبيداغوجية بالكفايات ، وما طبيعة هذه العلاقة: هل هي علاقة يطبعها التكامل والاستمرار أم أنها علاقة تقوم على القطيعة بمعناها الابيستيمولوجي؟ ثم كيف تشتغل هذه البيداغوجيا و ما الذي تتغياه؟ و أخيرا ما الذي يمكن أن تضيفه للممارسة البيداغوجية - بالخصوص داخل مجال المدرسة المغربية التي بدأت تستنبتها وبشكل متدرج ؟

إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات يفترض في نظرنا الرجوع إلى الوراء ومن ثم التساؤل عن البدايات ، عن أصل الكفايات ؟

أولا :من بيداغوجيا الأهداف إلى المقاربة بالكفايات:

لقد ساهم التدريس بالأهداف ، كما نعرف،في تحقيق تقدم ملموس على مستوى تنظيم و عقلنة العملية التعليمية /التعلمية حيث لم يعد هناك مجال للنوايا و العفوية و التدخل في آخر لحظة كما كان الأمر عليه في السابق.إن المدرس سيجد نفسه ، مع التدريس الهادف ،مضطرا للتفكير في كل ممارساته المهنية بما يتطلبه ذلك من تحديد دقيق لأهداف التعلم والعدة البيداغوجية اللازمة لتحقيق تلك الأهداف من طرق ووسائل، وكذا آليات التقويم المناسبة....مع الإفصاح و الإعلان عن تلك الأهداف للمتعلمين الذين سيتحولون بموجب هذا التوجه البيداغوجي الجديد إلى شركاء في العملية التعليمية /التعلمية وليس مجرد مستقبلين سلبيين.

غير أن ذلك لم يمنع هذه الممارسة المقننة و المنظمة والمفكر فيها بشكل قبلي من الوقوع في نوع من الرتابة و التكرار. تجلى ذلك أساسا في طغيان تلك العلاقة الميكانيكية بين المثيرات والاستجابات الحاصلة عنها من قبل المتعلم. كما أن تجزيء وحدات التعلم إلى مكونات عدة بدءا من الأهداف العامة للمادة التعليمية إلى الأهداف الإجرائية كان له تأثير سلبي على البنية العقلية للمتعلم لأنه سيجد نفسه في الأخير أسير أفعال وردود أفعال تنتج عنها بالضرورة لكنها تبقى مفتتة ومنعزلة. ومن ثم فالمتعلم ،و بالرغم من تمكنه من تعلم مهارات محدودة، فإن تعلماته تلك لا تتلاءم و طبيعة المشاكل و الوضعيات التي تصادفه. إن الرساميل المعرفية التي راكمها عبر مساره التعلمي تبقى وكما يذكر فيليب بيرنو رساميل نائمة capitaux dormants1.

سيؤدي ماسبق إلى التفكير ليس إلى إحداث قطيعة مع تراث التدريس الهادف كما يعتقد البعض، بل إلي المزيد من التدقيق في أفق مد الجسور بين المنتوج المدرسي من جهة ومتطلبات الحياة العملية للمتعلم من جهة أخرى، وما سيصادفه هذا المتعلم مستقبلا من وضعيات و إشكالات .

في هذا الإطار ، وضمن هذا المنظور يتعين أن نفهم ظهور ما سيسمى لا حقا بالمقاربة بالكفايات والتي كما يذكر الباحث محمد الدريج ستمثل جيلا ثانيا للتدريس من منظور الأهداف السلوكية2 . وهكذا فظهور المقاربة بالكفايات سيمثل بمعنى ما و بلغة ابستيمولوجية احتواء و تجاوزا نوعيا للتدريس بالأهداف*.

إن ما يهم مع هذه المقاربة ليس تعلم مهارات مثل تلك التي يتحدث عنها بلوم أو دولاندشهير في صنافاتهما التي تشمل المعرفة والفهم والتحليل والتطبيق والتركيب والنقد ، بل ما يهم هو مدى التمكن و القدرة على استيعاب و استثمار ذلك الكل المكتسب من المعارف والقدرات والمهارات و المواقف في مواجهة عائلة أو شبكة من الوضعيات. وهو نفس المعنى الذي نجده عند منظري هذه المقاربة الجديدة سواء تعلق الأمر بفيليب بيرنو ، دي كيتل، كارل روجرز أو آخرين. فالكفاية في النهاية يتم تحديدها باعتبارها معارف تنضاف إليها مهارات سيتم توظيفها في حل وضعية/مشكلة أو بتعبير دي كيتل الكفاية= معارف×مهارات×شبكة وضعيات.

وتتميز الكفاية بمجموعة من الخصائص هي التي تسهل علينا عملية تمييزها عن القدرات .وهي تتحدد كالتالي :

1- تحريك مجموعة من الموارد و الثروات(المكتسبة أصلا) :

وتعتبر هذه خاصية أساسية ، بها تعرف الكفايات حيث يفترض عند كل وضعية- مشكلة جديدة يصادفها الفرد تحريك كل المعارف و المكتسبات الممكنة ، سواء كانت معارف خالصة أو مهارات و تجارب ، لتجاوز المشكلة المعترضة . غير أن ذلك ، كما يلاحظ بعض الدارسين ، لا يجعلنا نميز بشكل تام بين الكفاية و القدرة حيث أن بعض القدرات المتطورة هي نفسها تتميز بهذه الخاصية .

2 - الطابع الغائي للكفاية :

إن تحريك مجموعة من المعارف كخاصية أساسية للكفاية لا يتم بشكل مجاني بل من أجل غاية محددة . إن ما يحكم الكفاية إذن هو القصدية باعتبار وظيفتها الاجتماعية . ذلك أنها تلبي ضرورة اجتماعية . فالتلميذ عندما يحرك كل مكتسباته السابقة وكل خبراته فهو لا يقوم بذلك عبثا ، بل من أجل إنتاج شيء ما ، من أجل القيام بنشاط ما ومن أجل إيجاد حل لمشكل طارئ يعترضه في ممارسته الاجتماعية أو حياته اليومية أي في ممارسات و أنشطة لها معنى بالنسبة للتلميذ .

3- الارتباط بشبكة من الوضعيات:

تكمن الخاصية الثالثة للكفايات في كون التحريك أو الإثارة السابقة للمعارف و الخبرات تكون بمناسبة وجود عائلة أو شبكة من الوضعيات . هكذا فالكفاية المرتبطة أو المتعلقة بتسجيل نقط درس في السنة النهائية من التعليم الثانوي ليست هي نفسها عندما يتعلق الأمر بتسجيل نقط أثناء اجتماع معين . إن كلا من الكفايتين موضوع المثال ، تستجيب لضرورة أو لمطلب يختلف عن الآخر لأن الحيثيات المرتبطة بكل منهما تختلف عن الأخرى . وهكذا يمكن للفرد أن يكون كفؤا في حل مسألة رياضية وقد لا يكون كذلك أمام مسألة فيزيائية . هكذا فإذا كنا على مستوى القدرات نعمد إلى توسيع و تنويع المحتويات المعرفية كلما أمكننا ذلك ، وبدون قيود ، لتنمية و تطوير قدرة معينة لدى المتعلم ؛ فان الأمر على مستوى الكفايات يختلف ، حيث لتطوير كفاية ما يتعين التقليص و التقليل من الوضعيات التي من المفترض أن يزاول فيها المتعلم الكفاية المستهدفة .

4- طابع الارتباط الدائم بمادة دراسية محددة :caractère souvent disciplinaire

إذا كانت القدرات تتميز بطابعها الاستعراضي أي القدرة على المرور من مادة دراسية إلى أخرىtransversalité، فإن الكفايات ، وفي غالب الحالات ، تكون مرتبطة بمادة دراسية محددة . وما يفسر هذه الخاصية هو كون الكفاية تكون دائما محددة من خلال نوع من الوضعيات تكون هي بدورها مرتبطة أو في علاقة بمشاكل خصوصية مرتبطة بهذه المادة الدراسية ومن ثم مرتبطة بمتطلبات هذه المادة . وان كان ذلك لا يمنع من أن نصادف في بعض الحالات كفايات تنتمي لمواد أو اتجاهات معرفية مختلفة ومع ذلك متقاربة فيما بينها ومن ثم القابلية للتنقل فيما بينها . مثلا كفاية القيام ببحث في اللوم الاجتماعية ليس غريبا بالمرة عن كفاية القيام ببحث في العلوم حيث أن المسارات الكبرى متشابهة أو هي : تحديد إطار نظري ، جمع المعطيات ....الخ . مع ذلك فان الكفايتين تظلان متمايزتين حيث أن باحثا في العلوم لا يمكنه أن يقدم نفسه كذلك في العلوم الاجتماعية و العكس صحيح . وذلك ليس لأن كلا منهما مطالب بتحريك و إثارة معارف خاصة بهذه المادة أو تلك ولكن لأن مسارات البحث هي نفسها مختلفة بالنسبة للمبحثين ، مبحث العلم - الدقيق- ومبحث العلوم الاجتماعية .

 

5- القابلية للتقويم :Evaluabilité

إذا كان من الصعب ، كما مر بنا ، تقويم قدرة من القدرات لأنا لا نقوم في الواقع سوى تمظهراتها أو مواقعها أو المواد الحاملة لها ولا نقومها هي في ذاتها ؛ فانا على مستوى الكفايات يمكننا أن نتحدث عن عملية تقويم يمكن أن نقوم بها من خلال قياس درجة تحقق المهمة وكذا النتيجة المرتقب الوصول إليها . إلا أن ذلك يظل دائما مرتبطا ، كما سبقت الإشارة ، بمهمة une tacheمن المهام من خلالها نحكم على الشخص هل هو كفء أم لا .

وخلافا لما سبق سنجد القدرات تتميز بالخصائص التالية :

1- القابلية للتمظهر عبر محتويات معرفية مختلفة : transversalité

تمثل هذه الخاصية – خاصية الاستعراض كما يسميها البعض – ما تتوفر عليه القدرات من إمكانية التحرك و التوظيف في مجالات معرفية مختلفة و بدرجات متفاوتة ، هكذا فتمظهر قدرة التحليل في مجال الرياضيات و حضورها ليس هو نفسه الذي قد نصادفه في مادة الاجتماعيات أو مادة اللغة العربية . إن الحضور هنا متفاوت في الدرجة ولكنه قائم وهذه ميزة أساسية تمتاز بها القدرات .

2- التطورية: Evolutivité

تترجم هذه الخاصية القدرة على التطور على مدى الحياة . فلو أخذنا مثلا قدرة الملاحظة observerسنلاحظ أنها تختلف عند الشخص الواحد من سن إلى أخرى ، فالطريقة التي يلاحظ بها طفل في السنة الخامسة ليست هي نفس الطريقة التي يلاحظ بها وهو في سن الرشد حيث تصبح ملاحظته مركزة ، سريعة و أكثر دقة و ليست هي نفسها التي نجدها عند باحث متخصص ، عالم اتنولوجيا مثلا حيث ملاحظته تتجاوز مستوى الوصف إلى مستوى التحليل .

هكذا فكل قدرة من القدرات تمتلك هذه الإمكانية للتطور بطرق مختلفة و في اتجاهات متعددة كذلك ، فهي من الممكن أن تمارس بشكل سريع ، بشكل أكثر دقة وفي كل الظروف ، بل وقد تتطور لتظهر بشكل أكثر عفوية وفي هذه الحالة نتحدث كما يذكر DE KETELEعن معرفة الكينونة savoir –être. وينبغي أن نشير في هذا الإطار أن هذه القدرات تتطور أو لها القابلية للتطور بهذا الشكل لأنها مرتبطة ، وبشكل خاص ، بشبكة واسعة من المحتويات المعرفية "لأنه من الصعب على الشخص كما يذكر كزافيي روجرز أن ينمي القدرة على الملاحظة لديه إذا بقي منغلقا وعلى طول النهار داخل نفس الغرفة "3 . كما أن هذه القدرات لا تتطور بنفس الوتيرة و لا تتبع مسارا واحدا في التطور بل تتخذ مسارات متعددة ، فقد تكون ضعيفة في بدايتها ثم سرعان ما تنفجر وقد تكون انطلاقتها جيدة ثم سرعان ما تبدأ في التراجع مع الزمن ، مثلا القدرة على التذكر التي تبدأ بعض أشكالها في التراجع في سن معينة .

3- التحول :Transformation

يعتبر التحول من الخصائص الأساسية للقدرات و التي تميزها عن الكفايات و تجعلنا نتجاوز نسبيا التداخل بينهما. وتبرز أهمية هذه الخاصية في كونها تبين لنا كيف تتطور القدرات حسب محور آخر غير محور الزمان . انه محور الوضعيات L’axe des situationsكما يسميه البعض4 4 – Xavier Roegiers ,ibid,p30حيث انه من خلال الاتصال مع المحيط من جهة ومع المحتويات المعرفية وكذا قدرات ووضعيات أخرى تتفاعل القدرات فيما بينها وتتحد وتتجمع لكي تتولد عنها وبشكل تدريجي قدرات جديدة أكثر إجرائية كالكتابة و القراءة و الحساب و التنظيم ....الخ . هكذا فالقدرة على التفاوض مثلا négocierمرتبطة بالقدرة على التواصلcommuniquerوهذه القدرة الأخيرة مرتبطة هي الأخرى بالقدرة على الإنصات écouterوأيضا القدرة على الكلام parler. نحن هنا إذن أمام وضعيات مختلفة مما يستدعي قدرات متداخلة ومترابطة فيما بينها بشكل بنيوي ، قدرات تتسم بطابعها الأكثر إجرائية .

وعمد بعض الباحثين لتمييز قدرات من هذا النوع عن القدرات العادية إلى تسميتها بالكفايات العامةcompétences généralesأو الكفايات المفتاح compétences -clésأو الكفايات المستعرضة أو العابرة compétences transversales. مع ذلك لا ترقى قدرات مثل هذه إلى مستوى الكفايات بالرغم من إجرائيتها لأنها غير محددة من منظور أو على خلفية وضعيات كما هو الشأن بالنسبة للكفايات التي تشترط وجود شبكة من الوضعيات هي التي تجعلنا نقر بوجود كفاية ما .

4- عدم القابلية للتقويم : Non évaluabilité

مفاد هذه الخاصية أنه من غير الممكن تقويم القدرة في ذاتها . إننا نقوم فقط تمظهرات القدرة من خلال هذه المادة الدراسية أو تلك ولكن من غير الممكن ، وبشكل موضوعي ، الوقوف على درجة الإتقان أو التحكم في هذه القدرة أو تلك عكس ما يمكننا فعله بخصوص كفاية ما . ذلك أن الكفاية وخلافا للقدرة تكون دائما مرتبطة بمهمة معينة تيسر إمكانية تقويمها وبالتالي إصدار حكم محدد.

بعد هذه التوضيحات التي بدت لنا ضرورية، والتي اتخذت طابع تذكير بالبيداغوجيات السابقة ،يمكننا التساؤل عن موقع بيداغوجيا الإدماج ضمن هذه الصيرورة أو هذا المسار الذي اتخذه التفكير في الممارسة البيداغوجية ؟

 

ثانيا :من المقاربة بالكفايات إلى بيداغوجيا الإدماج:

إذا كان من أهم مرتكزات المقاربة بالكفايات كما مر بنا في مكان آخر هو تعويد المتعلم على توظيف و استثمار كل مكتسباته السابقة في مواجهة وضعيات و مشاكل تعترضه في حياته العملية، فإنه للوصول إلى ذلك كان يلزم إعادة النظر في طريقة اشتغال المدرس و ضرورة تنويع مداخل التعليم وذلك باعتماد بيداغوجيات متنوعة. تلك اليداغوجيات التي نسميها بالفعالة أو النشيطة والتي تتميز أ ساسا بخاصيتين أساسيتين :

-التركيز على الكيف بدل الكم ، أي على تعلم والتمكن من المهارات بدل التركيز على المعرفة . إن المعرفة تبقى ضرورية حيث لا يمكن أبدا تخيل كفايات أو بالأحرى قدرات دون معارف . ولكن حضورها لا يمثل غاية في حد ذاته بل فقط ممرا طبيعيا ومناسبة لابد منها لاكتساب القدرات ومن ثم الكفايات .

-التمركز حول شخص المتعلم حيث لم تعد المادة المدرسة و محتوياتها هي النواة أو المحور الذي يحظى بكل الأهمية ، بل المتعلم بخصوصياته وإمكاناته الحقيقية وليست المتخيلة.

وفي هذا الإطار سيتم الحديث عن بيداغوجيات متعددة كالبيداغوجيا المعرفيةéducation cognitiveالتي ستركز على كيفية جعل المتعلم يتعلم بنفسه ومساعدته على اكتساب آليات التعلم الذاتي et à penser apprendre à apprendre. ثم بيداغوجيا الفوارق pédagogie différenciéeالتي ستبين من جهتها كيف أن القسم المتجانس أسطورة وأن ثمة داخل كل فصل دراسي فوارق تتمظهر على مستويات مختلفة : على مستوى القدرات المعرفية، السوسيو اقتصادية و السوسيو ثقافية بين المتعلمين وهي التي تتحكم في استراتيجية التعلم عند كل منهم . كما أن لكل متعلم مساره الدراسي وعلاقاته الخاصة سواء مع المؤسسة المدرسية ، مع المادة الدراسية أو مع ذاته . ومن ثم ضرورة أخذ كل هذه الاختلافات وهذه التباينات بعين الاعتبار أثناء الممارسة البيداغوجية. إضافة إلى بيداغوجيات أخرى مثل بيداغوجيا الخطأ pédagogie de l’erreurبيداغوجيا المشروع pédagogie de projetوكذا بيداغوجيا الإدماج pédagogie d’intégration.**

ينبغي إذن إدراك بيداغوجيا الإدماج ضمن هذا الإطار أي باعتبارها استمرارا لنفس المقاربة :مقاربة الكفايات .إنها أجرأة وتفعيل لهذه المقاربة . إنها بيداغوجية لها إطارها العام ، لها أهدافها وكذلك لها جهازها المفاهيمي الخاص بها والذي يميزها عن بيداغوجيات أخرى تتقاطع معها .

 

1 - الإطار العام لظهور بيداغوجيا الإدماج :

تستند المقاربة بواسطة الكفايات القاعديةcompétences de base*** بالأساس على أعمال دي كيتل De Kettleنهاية الثمانينيات والتي اعتمدت على موضوعة أو مفهوم الهدف النهائي للإدماج( Objectif Final d’Intégration ( OTI****

هذه المقاربة سيتم تطويرها وستظهر تحت تسمية جديدة هي بيداغوجيا الإدماج التي ستتم أجرأتها من قبل BIEFوبشكل تدريجي ستنتقل إلى كثير من الدول في أوروبا ثم أفريقيا منذ بداية التسعينيات و بالخصوص على مستوى التعليم الأولي وكذلك التعليم التقني و المهني .

إن بيداغوجيا الإدماج ،وباستنادها على مبدأ إدماج المكتسبات وذلك من خلال الاستغلال المنتظم لوضعيات الإدماج وتعلم كيفية حل المهام المعقدة ، تسعى إلى محاربة النقص الحاصل في فعالية الأنظمة التربوية و قصورها .

 

2- أهداف وغايات المقاربة بالكفايات القاعدية أو بيداغوجيا الإدماج :

يمكننا القول استنادا على أعمال روجرز أن هذه المقاربة تضع نصب أعينها ثلاثة أهداف أساسية 5 :

يتعلق الأمر في البداية بالتركيز على ما يجب أن يتحكم فيه التلميذ نهاية كل سنة دراسية وفي نهاية التعليم ،أكثر من الاهتمام بما ينبغي للمدرس أن يدرسه.إن وظيفة هذا الأخير تنحصر فقط في تنظيم التعلمات بأحسن طريقة ممكنة للوصول بالتلاميذ إلى المستوى المطلوب أو المستوى المنتظر.

يتعلق الأمر كذلك بإعطاء معنى للتعلمات، وأن نجعل التلميذ يتبين قيمة ما يدرسه داخل المدرسة وفيما يمكن أن ينفعه؟ من أجل ذلك يتعين عليه أن يتجاوز لوائح محتويات المواد الدراسية ، أي المعارف التي يحفظها عن ظهر قلب ، وكذلك المهارات الفارغة من المعنى، والتي في غالب الحالات ،تقلق وتشوش على التلميذ ولا تفتح له شهية التعلم .خلافا لذلك تعلمه المقاربة بالكفايات كيف يموضع، وبشكل مستمر و دائم ،تعلماته في علاقتها مع وضعيات لها معنى بالنسبة إليه واستخدام مكتسباته السابقة في مثل هذه الوضعيات.

ويتعلق الأمر في الأخير، بتقويم إشهادي لمكتسبات التلميذ من خلال القدرة على حل وضعيات محسوسة و ليس من خلال حصيلة المعارف و المهارات والتي ينساها المتعلم بسهولة ، والتي لا يعرف كذلك كيف يستعملها في حياته العملية . من هنا فإن المقاربة بواسطة الكفايات القاعدية ، بتعبير كزافيي ، تمثل ردا على المشكلات التي تطرحها الأمية المهنية 6.

 

 

3 - المفاهيم الأساسية المرتبطة ببيداغوجيا الإدماج :

 

-الكفاية compétence

نقول عن شخص أنه كفء ليس فقط عندما نلاحظ أنه يملك بعض المكتسبات( معارف، مهارات،...الخ) ولكن فقط عندما يستطيع تحريك هذه المكتسبات بطريقة ملموسة من أجل حل وضعية- مشكلة محددة.

وبشكل أكثر دقة ، فالكفاية هي " إمكانية الفرد تحريك مجموعة مندمجة من الموارد في سبيل حل وضعية –مشكلة تنتمي إلى عائلة من الوضعيات "( روجرز 2000).

إن الحديث عن الكفايات يستدعي و في نفس الوقت الحديث عن الموارد و الوضعيات ،أي من جهة جملة المعارف والمهارات والمواقف التي يتعين على المتعلم تحريكها ، ومن جهة أخرى الوضعيات التي يتعين على المتعلم كذلك استعمال موارده لحلها .

-الموارد ressources

تتشكل من المعارف savoirsوالمهارات savoirs- faireو المواقف savoirs- êtreوبشكل عام جملة المكتسبات السابقة للتلميذ التي حصل عليها من خلال تعلماته السابقة. وهي ما نسميه بالموارد الداخلية للمتعلم في مقابل الموارد الخارجية والتي تعتبر ضرورية لتحقيق و لممارسة الكفاية ومنها الموارد المادية أي الوسائل التي يتطلبها تحقيق و انجاز الكفاية .

-الوضعية " الهدف" la situation « cible»

يقصد بالوضعية "الهدف" تلك الوضعية التي تمثل انعكاسا للكفاية التي نريد تثبيتها لدى التلميذ.ويمكن اعتبارها بمثابة مناسبة لتحقيق الكفاية أو مناسبة لتقويمها .

في مجال المقاربة بالكفايات ، عندما نتحدث عن وضعيات ، فإننا نتحدث عن وضعيات نسميها أهداف ciblesأو وضعيات لإعادة الاستثمار أو الاستثمار من جديد réinvestissementأو وضعيات إدماجية وذلك من أجل تمييزها عن وضعيات ديداكتيكية والتي تكون مهمتها تطوير تعلمات جديدة للمفاهيم و للمهارات ...الخ . وهناك من يستعمل مصطلح "المهمة المعقدة" من أجل تحديد الكفاية -الهدف .و بالنسبة لكزافيي هذا المصطلح مهم جدا ولكنه لايميز بشكل دقيق بين المهمة التي تكون مناسبة لاكتساب معارف جديدة أو مهارات داخل الفصل (وضعية مشكلة ديداكتيكية) ومهمة تستدعي مجموعة من التعلمات المحددة سلفا لأنها تمثل الكفاية المستهدفة.فهذه الوضعيات المستهدفة أو الوضعيات/الأهداف ليست مجرد تمرين بسيط . إنها وضعيات-مشكلات مركبة و معقدة.

-مفهوم عائلة الوضعيات la notion de famille de situations

كل كفاية مرتبطة بعائلة من الوضعيات-المشكلات .إنها مجموعة من الوضعيات المستهدفة والتي تمثل كلا منها مناسبة لممارسة الكفاية :مناسبة بمستوى تعقيد مناسب(وبشروط واقعية) ولكن بمستوى لا يتجاوز ما هو منتظر . كل هذه الوضعيات نسميها بالمتكافئة ، بمعنى أنها قابلة للتحويل والتبادل فيما بينها من حيث مستوى الصعوبة و التعقيد .

مثال :بالنسبة للكفاية التالية : "ممارسة كرة القدم" ، عائلة الوضعيات تظهر بشكل طبيعي :إنها مجموعة المباريات التي يمكن للاعب خوضها . إذا كان كفئا في مباراة ، فإنه يبقى كذلك في مباراة أخرى ، وحيث يمكن لمدرب أن يشاهد اللاعب في مبارتين أو ثلاثة لكي يحكم عليه هل هو كفء أم لا ؟

ونفس الشيء يمكن أن نقوله بالنسبة للكفايات في المدرسة والتي يمكن أن نقومها من خلال وضعيتين أو ثلاث وضعيات/أهداف ciblesبل فقط من خلال وضعية واحدة شريطة أن تكون هذه الوضعية ممثلة أو تعبر عن الكفاية المستهدفة . إن ذلك لا يعني أن التلميذ قد تم تقويمه بشكل مباشر حول كفايته : لقد أعطيت له أولا الفرصة للتمرن و التدريب . نفس الشيء يمكن أن نقوله بالنسبة لسائق حديث العهد بالسياقة فهذا الأخير عندما يتعلم قانون السير ويتمكن من الموارد الضرورية للسياقة ، فإننا لا نقومه آنذاك بل يتعين عليه ممارسة القيادة و التدريب في وضعيات واقعية .

على المستوى البيداغوجي ، عندما ننتهي من تطوير التعلمات الأساسية التي تقود إلى الكفايات أي كلما تمكننا من إعطاء التلميذ الموارد الضرورية لممارسة الكفاية وتثبيت تلك الموارد لديه ، فإنه يتعين علينا أن نقدم له مجموعة من الوضعيات المعقدة لكي نقف على مدى تمكنه من الكفاية ومدى تحققها لديه. هذا ما يسمى بتعلم الإدماج l’apprentissage de l’intégration.

 

 

 

-مفهوم الهدف النهائي للإدماج Objectif Terminal d’Intégration

إن الهدف النهائي للإدماج هو المرادف لما يسميه كزافيي بماكروكفاية تغطي وتشمل مجموعة من الكفايات ومن ثم مجموعة المعارف والمهارات والمواقف المرتبطة بسلك تعليمي (على العموم سنتين).

إن الهدف النهائي للإدماج يترجم الملمح أو الصورة المنتظرة للتلميذ بعد سلك تعليمي محدد في مادة معينة . ومن ثم لا ينبغي الخلط بينه والهدف العام الذي يرمز في التدريس عن طريق الأهداف إلى مقاصد عامة .

على عكس الهدف العام يمتلك الهدف النهائي للإدماج خاصية محددة جدا، لأنه مثل الكفاية /القاعدية يتحدد و يجد تعريفه من خلال عائلة أو شبكة من الوضعيات- المشكلات غير المحددة . وهذه الوضعيات – المشكلات عادة ما تكون نسبيا معقدة لأنها تغطي الأساسي من مكتسبات سلك تعليمي في مادة تعليمية معينة .

في نفس الإطار ، نستعمل في بعض الحالات مفهوم الهدف الوسيطي للإدماج (Objectif Intermédiaire d’Intégration) والذي يغطي هو الآخر مجموعة الكفايات المرغوب فيها خلال سنة دراسية .

 

ثالثا :بيداغوجيا الإدماج في المغرب أو التجربة المغربية للإدماج :

منذ الموسم الدراسي 2008/2009تم تبني المشروع التجريبي من قبل الوزارة الوصية و شرع في تطبيقه في أكاديميتي مكناس والشاوية ورديغة في ثمانية عشرة مؤسسة ابتدائية؛ انطلاقا من الموسم الدراسي الحالي، على أن يتم التجريب الموسع في باقي الأكاديميات بدءا من 2009/2010 حيث سيصبح كل أستاذ يشتغل مع تلاميذه خلال سنة دراسية كاملة حول كفايتين أساسيتين فقط : واحدة لغوية شفوية والأخرى كتابية، بالإضافة إلى كفايات التفتح والرياضيات.

وقد تم خلال الصيف الماضي تجميع فريق من المؤلفين يضم مفتشين تربويين وأساتذة التعليم الابتدائي والمراكز لإعداد العدة البيداغوجية اللازمة في أفق أجرأة حيثيات هذا المطلب البيداغوجي الجديد، وخصوصا التفكير في وضعيات إدماجية خاصة بكل مستوى تعليمي ،وفي كل مرحلة تدرجية من مراحل تحقق الكفاية الأساسية. وقد أشرف على تأطير هذه العملية فريق من الخبراء الدوليين المنتمين إلى معهد هندسة التربية والتكوين الدولي بدعم تقني من قبل اليونسكو. وبدخول هذا المخطط مرحلة التجريب في أكاديميتي مكناس وسطات تلقى كل أساتذة التجريب تكوينا لمدة 5 أيام، كما خضعت عملية تتبع أساتذة التجريب لبرمجة دقيقة أسهم فيها الخبراء الدوليون و الوطنيون ومفتشي المقاطعات .

خلال الموسم الدراسي الحالي تم تعميم التجربة على مختلف الأكاديميات الجهوية من خلال اختيار مؤسسات تجريبية على أن تعمم التجربة فيما بعد على مختلف المؤسسات التعليمية . وفي هذا الإطار خصصت أيام تكوينية احتضنتها مراكز التكوين المستمر التابعة للأكاديمية وكذا بعض مراكز تكوين أساتذة التعليم الابتدائي . والمتتبع لمختلف هذه الأنشطة التكوينية لا يمكن إلا أن يسجل ما نتج عنها من تساؤل وإعادة نظر في الطرق المعتمدة حاليا في مدارسنا . ولا يمكن في هذا الإطار كذلك أن ننكر ماتقدمه مثل هذه اللقاءات "التكوينية " من اغناء لتجارب المدرسين، وما يصاحبها من خلخلة وتساؤل ذاتي للممارسة البيداغوجية في شكليها الفردي و الجماعي . وإذا كان من غير الممكن التسرع في تقييم هذه التجربة ، على الأقل في الوقت الحالي : بداية التجريب المحدود، و إذا كانت هذه التجربة ،على الأقل، جعلت كلا من الفاعلين التربويين أساتذة وتلاميذ يشعرون بقيمة ما يدرسون ،ويعطونه معنى، وبالتالي إعادة نسج العلاقة بين المنتوج المدرسي من جهة و متطلبات المجتمع من جهة ثانية ولو على المستوى البعيد ، فإن ذلك لا يمنعنا من طرح التساؤلات التالية : إلى أي حد يمكن اعتماد مثل هذه البيداغوجيا في غياب مراجعة للبرامج والمحتويات المقررة حاليا في مدارسنا ،لأننا- أردنا ذلك أم لم نرده- وبالرغم من اعتبار الكتاب المدرسي مجرد وسيلة وأداة للتعلم مثل باقي الوسائل الأخرى؛ فإننا مسبقا نعرف أنه يظل المصدر الأساسي للمعرفة بل للتعلم لا بالنسبة للتلميذ ولا بالنسبة للمدرس ؟كذلك إلى أي حد يسمح الفصل الدراسي الحالي وما يعرفه من اكتظاظ ولا تجانس على مستوى القدرات المعرفية للمتعلمين في تطبيق بيداغوجية كهذه .؟ نكتفي في هذا الإطار بالقول أن ثمة مجالات أخرى لا مفكر فيها هي المسؤولة عن ضعف منظومتنا التعليمية ومن ثم فالمدخل البيداغوجي يبقى في نظرنا قاصرا لوحده في تجاوز الوضع الحالي الذي تعرفه المؤسسة المدرسية 7.

 

 

هوامش :

1-Philippe Perrenoud, Le rôle de l’école première dans la construction de compétences , revue préscolaire, vol .38,n°2,avril 2000,pp6-11

2 – انظر محمد الدريج ، الكفايات في التعليم ، منشورات رمسيس ،سلسلة المعرفة للجميع ،العدد السادس عشر ،ص38.

* يجب أن لا ننسى في هذا الإطار عوامل أخرى ساهمت في هذا الانتقال.للتوسع أكثر يمكن الرجوع إلى مقال سابق لنا في هذا الشأن تحت عنوان بيداغوجيا الكفايات ، الأسس و المرتكزات ، انظر التدريس بالكفايات رهان على جودة التعليم ، مجموعة من المؤلفين ،منشورات مجلة علوم التربية،مطبعة النجاح الجديدة 2007

3-Xavier Roegiers ,Savoirs , capacités et compétences à l’école : une quête de sens ,Forum pédagogiques , mars 1999,p29

** للتوسع أكثر في هذه المقاربات البيداغوجية الجديدة يمكن الرجوع إلى كتابنا مقاربات بيداغوجية ، من تفكير التعلم إلى تعلم التفكير ، دار إفريقيا الشرق ،2009

 

***هناك من يترجمها بالكفايات الأساسية أو الكفايات الأساس و لكننا لا نتفق على ذلك بدليل أن الحديث عن الكفايات الأساسية يعني فيما يعنيه أن هناك كفايات أخرى ثانوية . في حين عندما نعود إلى استعمال المفهوم في سياقه كما صاغه كزافيي روجرز نلاحظ أن المقصود هو تلك الكفايات/القاعدة التي تشكل أساسا ومرتكزا عليه تنهض كفايات أخرى جديدة وهكذا دواليك .

**** سنعود إلى هذا المفهوم في الفقرة المرتبطة بالجهاز المفاهيمي لبيداغوجيا الإدماج .

5-Xavier Rogiers ,Pédagogie de l’intégration en bref , mai 2006, p3

6-Xavier Rogiers , ibid,4

7- انظر في هذا الإطار كتابنا مقاربات بيداغوجية من تفكير التعلم إلى تعلم التفكير ، منشورات أفريقيا الشرق،البيضاء2009

 

مفهوم التمثلات

 

تقديم: يستأثر موضوع التمثلات باهتمام كثير من العلماء و الباحثين في مختلف العلوم الإنسانية، لما له من قيمة مضافة يزيدها إلى تطور العلوم عموما،وعلوم التربية بصفة خاصة. زد على ذلك أن الأخد بعين الإعتبار لهذا المفهوم الذي سيتم تناوله بعجالة في هذه الورقة، يؤدي إلى تطور المعارف، وتطور المتعلم،صغيرا كان أو كبيرا.في اكتسابه لهذه المعارف.

إن الحديث عن التمثلات كموضوع للتحليل، يقتضي الإنطلاق من افتراضين أساسيين هما:

1) كون عقل المتعلم ليس صفحة بيضاء بقدر ما هو مليء بالعديد من القضايا و الظواهر و التطورات التي تدعم تشبته بإرائه، إذ يوظف نمادج تفسيرية قد تكون ملائمة أو لا تكون ملائمة، مدعمة أو معيقة لعملية التمدرس و عملية التعلم بنفسه.

2) كون التعلم لا يغدو كونه مجرد إضافة معلومات جديدة، بل هو إحداث تغييرات في البنيات الذهنية المتواجدة لدى المتعلم.

وبصدد هذا الموضوع، لا بد من التصريح أن قضية التمثلات لها ارتباط و ثيق بتعلم و اكتساب المعرفة عموما، و المعرفة الموضوعية خصوصا،و بصفة أخص تعليم وتعلم العلوم، و الذي يعاني من قصور كبير لدى شرائح واسعة من الناس و ذلك من حيث:

- صعوبة استيعاب المعرفة العلمية.

-النسيان السريع للمعرفة العلمية.

- صمود أفكار خاطئة لدى المتعلم في وجه ضغوطات التدريس عبر المستويات.

بعد هذه المقدمة السريعة، لا بد من التذ كير ببعض الملاحظات قبل التطرق إلى فقرات العرض الأخرى.

إن مفهوم التمتل يعد من أعقد المفاهيم في العلوم الإنسانية على غرار باقي المفاهيم.

تم تناول المفهوم من قبل عدة باحثين وعلماء، ولا يزال سيتأتر باهتمامهم منذ عقود.

يلاحظ تباين في تاريخ ظهور المفهوم.(شو بنهاور-دوركهايم-دوفيسكي- باشلار...)

أولا: مقاربة مفهوم التمثل

1- لغويا:

ابن منظور.التمثل من مثل لشيء أي صوره حتى كأنه ينظر إليه،وامتثله أي تصوره.(التشبيه)

جميل صليبا،التمثيل والتمثل متقاربان: صورة الشيء في الذهن وقيام الشيء مقام شيء أخر.

لاروس: حضور الشيء ومثوله أمام العين أو في الخيال بواسطة الرسم أو النحت أو اللغة.

:Petit robert

احضار، عرض مثول أمام العين،تقديم موضوع غائب أو مفهوم إلى الذهن.

من هذه التحديدات اللغوية، سنخلص أن مفهوم التمثل عملية تتضمن استحضار صورة موضوع غائب إلى الذهن.أو تشبيه الشيء باخر أو تقليد الشيء.

2-إصطلاحا:

سأقتصر هنا على بعض التعاريف،نظرا لكثرتها وتعقد المفهوم كذلك.لكن قبل ذلك يستحسن التوقف عند تاريخ ظهور المفهوم أولا،وذلك على الشكل التالي:

هناك من يقول أن أول ظهور لهذا المفهوم،كان بواسطة شوبنهاور في كتابه:

الواقع كإرادة وتمثل (1818).(في مجال الفلسفة).

وهناك من يقول أن إيميل دركهايم هو أول من وظفه سنة(1898)في السوسيولوجيا.

أما مطلع القرن العشرين،فقد تناوله كل من بوانكاري و بروكلي لتأسيس كيفية انتقال الفكر قبل العلمي إلى الفكر العلمي.

ومن قائل أن ظهور مفهوم التمثلات في مجال التربية والتعليم،فقد كان على يد الفاعلين في ميدان التكوين المستمر،إذ إن فئة

الكبار يحملون معارف قبلية تشكل نظاما تفسيريا غالبا ما يدفعهم إلى مقاومة المعارف الجديدة.

وأخيرا نجد من يقول إن دراسة سيرج موسكوفيتسي الفرنسي(1961)هي التي تمثل أهم إطار للتقعيد النظري والمنهجي

لدراسة هذا المفهوم و تحديد اليات عمله وكيفية تشكله وانبنائه ودوره في رصد الظواهر المعرفية.

بعد هذا التطور الزمني للمفهوم،لابأس من الإنتقال إلى المعنى الإصطلاحي له،وسيتم الاقتصار على تعاريف بعض

المختصين في بعض المجالات والعلوم ذات الصلة بالعملية التعليمية/التعلمية،حتى لانتيه في متاهات يصعب الخروج منها

في هذا الحيز من الزمن.

أ-المعنى السوسيولوجي:

سنقتصر هنا على تعريف إميل دوركهايم،إذ يقول:"هي تصورات اجتماعية تتأسس على شكل قيم و معايير للسلوك

والتذوق والقول،إنها تتغير بتغيير الحياة الإجتماعية. إنها تتشكل انطلاقا من الأوضاع والمواقف والميولات الثقافية

و التي تحكم رؤية المجتمع إلى العالم،كما تحكم أنماط تفكيره وأسلوب عيشه والمعايير المعتمدة فيه حسب الأولويات.

وكأمثلة على ذلك في مجتمعنا،مجموعة من العادات والقيم والسلوكات والاداب التي نتمسك بها ونمارسها في حياتنا

اليومية في مختلف المؤسسات الإجتماعية التي نعيش فيها.

ب-المعنى السيكولوجي:

يختلط هذا المفهوم في علم النفس مع مفاهيم سيكولوجية أخرى مثل:الصورة،الإدراك،الرمز...الخ

تعريف بياجي:التمتل هو تلك الصورة الذهبية التي يستحضرها الفرد للموضوعات و العلاقات،يترجمها في شكل ملموس يمثل درجة عالية من التصوير.

تعريف كل من: :Devicchiو giordanوglément

"هي معارف أولية مكتسبة خارج إطار العلوم المختصة، وبالتالي، فهي عبارة عن معلومات عامة،استوعبها الفرد في محيطه السوسيو ثقافي:قد تفتقر،على المستوى العام، لسند علمي يعطيها مصداقيتها و شرعيتها كمعرفة مقبولة، سواء من طرف اللجنة العلمية المختصة، إذا كانت ترتبط بنتائج علمية جديدة لباحث في مجال اختصاص معين، أو من طرف المعلم باعتباره المسؤول المباشر على مكتسبات المتعلمين وما ينسجم و الأهداف التربوية المسطرة داخل النشاط التعليمي المنشود.

و يعتبرها: :Devicchi

(structure sous adjacente)-بنية ضمنية

نمودج تفسيري بسيط:

-مرتبطة بالمستوى المعرفي و التاريخي و كذلك الإجتماعي- الثقافي للفرد

-شخصية و قابلة للتطور.

تعريف باشلار المبسط:

في دراسة حول تاريخ العلوم و كذا حول الإبستمولوجية، بقصد الوقوف على كيفية تطوير هذه العلوم و اكتسابها من قبل أكبر شريحة من الناس، اعتبر باشلار التمثل عائقا بيداغوجيا يمنع المتعلم من امتلاك العلوم الموضوعية، رغم أن علماء آخرين يعتبرونها أداة معرفية رغم كونها خاطئة.بهذا الصدد، يقول:

"إن مفهوم بعض التلاميذ لشكل الأرض و موقعها داخل الكون قد يسهل أو يعيق اكتساب بعض المعارف الجغرافية المرتبطة بالليل و النهار وتعاقب الأوقات و الفصول.

كما يقول:"إن انتشار بعض المعتقدات و الخرافات داخل أي مجتمع يؤدي بالفرد إلى أن تتشكل لديه عدة عوائق لا تساعده على التعلم الجيد.

تعاريف أخرى:أرى ضرورة عرضها لتتضح الصورة أكثر،وهي كالتالي:

1-يعني التمثل في السوكولوجيا: بنيات معرفية ثابتة في الذاكرة البعيدة

المدى،تستعمل لتدل على تصورات الذات حول العارف العلمية.

2-مفهوم التمتل ذو طبيعة معقدة على غرار باقي المفاهيم الأخرى، باعتبار تعدده الدلالي وكذا تداخله مع مفاهيم أخرى كالتصوير و التفكير و طريقة التفكير و نشاط ذهبي.

3-التمثل نشاط ذهني يتشكل في ذهن الطفل/ التلميذ من خلال احتكاكه بمحيطه، وهو نمط تفسيري يستحضره لفك رموز الواقع و مواجهة الوضعيات- المشاكل.

4-تختلف الصور الذهنية (التمثلا ت) التي يشكلها التلا ميذ للمفهوم الواحد باختلاف الخبرات و المدركات الحسية التي يمرون منها و طريقة تفكيرهم و تصورهم له.

5-التمتل نشاط إبداعي ينطلق فيه الفرد من مجموعة من المعارف و التجارب التي تقوم بإعادة بنائها و تحويلها إلى موضوع ذهني، وهو ما يعني أن تمثلا تنا ليست مطابقة للواقع، بل هي خاضعة لتأويلا تنا الخاصة.

6-إنها طريقة عامة في تنظيم معرفتنا و فهمنا له، انطلاقا من المعلومات التي يتلقاها الفرد من عدة مصادر كالحواس والخبرات و المعلومات، كل هذا ينظم في نسق عام و متماسك بكيفية تسمح للفرد بفهم العالم المحيط به.

)أنواع التمثلات:3

بعد هذه التعاريف الإصطلاحية، والتي ساهمت في تشكيل صورة أكثر وضوحا عن المفهوم يتم الإنتقال إلى الحديث عن أنواعها. وبهذا الصدد يمكن تقسيمها إلى نوعين هو:

-التمثلات الإيجابية: هذا النوع يساعد ويدعم عملية تعلم المعرفة و العلم. فإذا تسلح المتعلم بتمثلات إيجابية سليمة يسهل عليه التعلم واكتساب معارف جديدة كما يدعم بنائه للمعرفة الموضوعية (وهي دائما نسبية).

-التمثلات السلبية: أو الخاطئة، وهي المعيقة للتعلم و امتلاك المعرفة، ولا بأس من سرد بعض الأمثلة في مختلف الحقول المعرفية لهذا النوع من التمثلات للإ يضاح :

- الفلسفة: كلام فارغ-إلحاد-خطاب معقد-لا فائدة منها.......إلخ

+تمثل الدرة عند آخرين (هيزنبيرغ مثلا).(Bohr)- تمثل الدرة عند بوهر

)+ تمثل الخلية و نواتها.....Molécules) – تمثل الجزيئات

- تمثل الضغط-الذوبان-الكتلة- القوة- الحرارة- ..........

- الغازات ليست مادة لأنها لاترى بالعين المجردة.

- الحمل عبارة عن انتفاخ بطن الأم من جراء إفراطها في الأكل.

- البغل ابن للبغلة.

- لكي تلد المرأة شبيه شخص معين، يكفي أن تشرب الماء فوق رأسه.

- القردة أناس كانوا يتراشقون بالكسكس.

- اللقلاق إنسان سبح في اللبن.

- وضع الملح في مكان جمع روث الدواب يعطي عقارب.

- تمنع بعض الأمهات أبنائهن من حمل الغربال مخافة أن يصبحوا أغبياء.

- التيار الكهربائي قاتل بامتصاصه لدم الإنسان، وعندما يقتل الكهرباء إنسانا، فإننا نجد قطرات دم في مخزن العداد

- لكل دولة شمس خاصة بها.

- الشمس مصباح يشتعل نهارا و ينطفيء ليلا.

- القمر نجم أو كوكب .

- الزلزال هو إنتقام الأرض من الإنسان.

- عندما تنخفض الحرارة، ترتعش الأرض و تحدث زلزالا.

- ظاهرتي الكسوف و الخسوف كل واحد يفسرهما تفسيرا خاصا.

- يفسر الطفل ظهور ثمار الأشجار في غير وقتها بأن الأشجار تحلم.

- لدى بعض الأطفال تتكلم حشراة النمل بلغتنا ولكن بصوت خافت.

- تغيب الشمس لترى أبناءها.

- سقوط المطرعبارة عن بكاء السماء.

- تفسيرات كثيرة و تمثلات متنوعة حول ظاهرة قوس قزح.

- لا تتوفر القنية على أنياب لأنها حلال.

- تمثل الجنة و جهنم في مختلف الديانات.

- يقال إن الطفل الصغير إذا أكل كبد الدجاج فسوف يتكون لديه الخوف عند الكبر.

- إذا وضعنا البادنجان تحت التربة مدة ، فإنه يتحول إلى عقارب.

كانت هذه التمثلات أمثلة متنوعة، مستلهمة من مختلف حقول المعرفة، وهي لا تشكل إلا النزر القليل لمختلف التمثلات و التصورات التي بناها الإنسان انطلاقا من تكيفه مع المحيط الذي يعيش فيه.

أهم مميزات التمثلات:-4

سبق القول،إن التمثلات هي تلك الصور الذهنية التي يشكلها الفرد لتفسير بعض الظواهر والقضايا، والتكيف مع الواقع

و إعادة التوازن الذي قد يفقده كلما واجه وضعية/مشكلة.

و إن أهم مصادرها هي الخبرة المكتسبة للفرد و تاريخه الثقافي و الإجتماعي و النفسي و المعرفي، إلا أن التمثلات في مجملها تتميز بعدة مميزات، تشكل هذه الفقرة، المجال الذي يتم فيه تناول ذلك.

1-قد تكون التمثلات عامة(كالتمثلات الإجتماعية و الثقافية و الدينية)أو خاصة) تمثل كل فرد لظاهرة أو مفهوم أو فكرة معينة).

2- سبقت الإشارة إلى أن التمثل قد يكون سلبيا أو خاطئا مما يستدعى التدخل قصد العلاج والتصحيح بما هو أحسن و أقدر موضوعية، وقد يكون إيجابيا يتطلب دعمه وتطويره و الإقتناع بأنه قابل للتطور و التغيير أيضا.

3- التمثل يتميز بالحركة و الديناميكية، أي إنه قابل للتطور سواء بالتعليم و التعلم أو بتطور العلوم الموضوعية عبر التاريخ.

4- بتشكيل التمثل عموما في الوسط الذي ينبثق فيه، فإن كان الوسط غنيا، علميا ومتطورا يكون التمثل أقرب إلى الواقع، و العكس أيضا صحيح، إنه إذن يتأثر بالوسط المعرفي و الثقافي و الإجتماعي و العلمي الذي ينشأ فيه.

5- هناك تشابه بين تمثلات المتعلمين و العوائق الإبستمولوجية في تاريخ العلوم(باشلار).

6- كل فرد سواء كان طفلا صغيرا أو كبيرا، يمتلك أنساقا معينة من التمثلات حول جميع مجالات الحياة المعرفية و العلمية.

7-يبقى التمثل نموذجا تفسيريا لدى الفرد إلى أن يتزعزع بتمثلات أخرى أحسن و أكثر موضوعية، و يتحقق ذلك بالتعليم و التعلم مدى الحياة.

تلكم بعض مميزات التمثلات لم يتم التوسع فيها نظرا لضيق المجال، و لنفس السبب لن يتم التطرق إلى علاقة التمثلات ببعض العلوم كعلاقتها بالعوائق الابستمولوجية و علاقتها بتاريخ العلوم و العلوم الإجتماعية و بالتحليل النفسي. ويمكن التطرق إلى ذلك في المناقشة إذا سمحت الظروف لذلك.

) تحليل لأهم مكونات مفهوم التمثلات:V

لن أطيل كذلك في هذا التحليل، ربما يكون ذلك خلا ل المناقشة، وما أود ذكره هناهو أهم مكونات هذا المفهوم و هي كالتالي:

أ-أعتبار التمثلات بنية ضمنية: تتشكل هذه البنية من الأنشطة الفكرية التي يقوم بها عقل المتعلم، و التي تتجسد في عملية جمع ومعالجة وتنظيم المعطيات التي تتوافر للمتعلم من خلال وضعية معينة لكي سيتدل عليها.فجواب المتعلم لا يهم بقدر ما تهم الطريقة التي اشتغل بها عقله.

ب- اعتبار التمثلات نموذجا تفسيريا : النموذج هو بناء ذهني و تمثيل مبسط لجزء من الواقع ، و تستعمل في ذلك عدة عمليات كالفهم و الإختزال و التبسيط و التمحيص و التطابق و التعميم....الخ

ج- تتأثر التمثلات بالمستوى المعرفي : سبقت الإشارة الى ذلك.(امثلة عن علوم و علماء قديما)

 

د- التمثلات صورة للبيئة الإجتماعية و الثقافية، إذ يلعب الوسط الإجتماعي و الثقافي دورا أساسيا في تحديد طبيعة تمثلات مجتمع ما. فالعادات و التقاليد والنظم و الأعراف والقيم و الإتجاهات... كلها عوامل تؤثر في تشكيل مرجعية يوظفها العقل في خطابه للواقع و التي تحد د الكيفية التي يفكر بها الفرد أو الجماع&